هذا هو قاسم قصير فلماذا يُقمع ويُخوّن؟

الجنوب

“أنا مجرد كاتب أو صحافي أو صاحب وجهة نظر متواضعة، وباحث جامعي، أعمل من أجل نشر الحوار، ومعالجة المشكلات والسعي لحماية لبنان وكل العالم العربي والإسلامي. وأنا كنت وما زلت مع المقاومة في لبنان وفلسطين، وضد كل محتل. ومع كل إنسان مظلوم ومضطهد. ولا أسعى من أجل إثارة إعلامية أو سياسية أو حزبية. وما أتمناه هو أن نناقش الآراء بهدوء حرصاً على مصلحة وطننا جميعاً، وأن نكون جميعاً جنوداً من أجل وحدة وطننا وحمايته من كل معتدٍ. ومسيرتي معروفة منذ أكثر من أربعين عاماً، وعملت ولا أزال أعمل ضمن قناعتي وحريتي. والله على ما أقول شهيد”.

بهذه العبارات الهادئة والبسيطة والمسؤولة رد الباحث والصحافي قاسم قصير على منتقديه، بل مهاجميه والمسيئين إليه، بعدما قال خلال مقابلة تلفزيونيّة كلاماً لا يعجب البعض ممن يعادون التفكير والاستقلاليّة وحريّة الرأي والتعبير.

وقاسم قصير القريب من حزب الله و”بيئته” لم يقل هذا فجأة، أو للمرة الأولى، إنما كتبه في السابق في بحث أكاديمي. وكرّره غير مرّة، سواء في الكتابات أم في المقابلات، وهو بالتأكيد يقوله في حواراته مع مسؤولي حزب الله وعناصره الذين تربطه بهم علاقات إنسانيّة وصداقات، منذ عقود.

فلطالما كان قاسم قصير فوق الخلافات، وجسراً في الاختلافات والحوارات. هو كذلك منذ شبابه: يختلف من دون أن يعادي أو حتّى يترك الاختلاف يتحوّل خلافاً، بل يحرص بأسلوبه الهادئ والحواري على تحويل الخلاف أو الاختلاف مختبراً مشتركاً للتفكير، وجسراً ومساحة تتبلور عليهما الآراء والمواقف العقلانيّة.

فقاسم قصير ليس ممّن يختلفون من أجل الخلاف أو الاختلاف، بل هو يحاور من أجل تبديد الخلاف والاحتفاء بالاختلاف.

وكثيرون ممّن يعرفونه يشهدون بذلك، وينطلقون من أنه قريب من حزب الله، وفي الوقت نفسه صاحب مسافة مستقلة عنه، ما يخوّله أن يصوغ ويقول رأياً هادئاً مقبولاً من الأطراف والآراء والتوجّهات كلّها، بما في ذلك حزب الله وبيئته. وهذا ما جعله صديقاً صدوقاً لكثيرين، ومن المشارب والانتماءات السياسية والحزبيّة والثقافية والأيديولوجية، في لبنان وخارجه.

وليس ارتباط قاسم قصير، ابن الجنوب (بلدة دير قانون في قضاء صور)، ببيئته والناس سوى تعبير عن أصالته المجتمعيّة وانتمائه للناس العاديين، ولا سيما الفقراء والبسطاء والريفيين. فهو حين انتمى إلى “الثورة الإسلاميّة” بنسختها الشيعيّة لم ينتسب إلى أيديولوجيا مغلقة، إنما اندفع في نصرة المستضعفين، أي أن الناس- المجتمع وحقوقهم وحياتهم وحريتهم همّه الأول. ولم يدخل صندوقاً وأقفل حوله الجهات، بل بقي يمارس الحوار والتفكير المشترك. فكان جنوبيّاً في لبنان، ولبنانيّاً في الجنوب، وعربياً في إيران وإيرانيّاً في بلاد العرب، وإنسانيّاً واجتماعيّاً في قراءة الدين ودينيّاً متسامحاً منفتحاً في مقاربة المجتمع والناس. وكل هذا بلا تعصّب أو حدّة في التعبير.

وأقصى ما يمكن أن يقوله قاسم قصير، حتى للمختلف معه، ولا ندري مَن هو وإذا ما كان موجوداً، هو “نقد ذاتي”. وهذا ما قاله لحزب الله: نقد ذاتي. وقاله على شاشة يصر حزب الله على وحدته مع أصحابها على الرغم من الفوارق والثغرات والمعارك بينهما. ومما قاله قصير أن لدى حزب الله مشكلتين عليه حلّهما، وهما:

  1. “علاقته بإيران، لا يمكن أن يكمل حزب الله، مع احترامي وتقديري لهذه العلاقة التي كان لها إيجابيّات كثيرة، لا يمكن أن يكمل بالآلية نفسها التي كانت في الفترة الماضية. يجب أن يصير حزباً لبنانيّاً. هناك علاقة دينية لا مشكلة. علاقة معنوية لا مشكلة. لكن لا يمكن أن يبقى يقول إنني بأمر الولي الفقيه. هذه نقطة بحاجة إلى حل”.
  2. “النقطة الثانية، هي موضوع المقاومة. لا يستطيع حزب الله أن يستمر لوحده مقاومة، يجب أن يصير ضمن استراتيجية دفاعية. نحن بحاجة أولاً من حزب الله ومن الشيعة ألا يكبر رأسهم كثيراً. هذا البلد بدّو يساعنا كلنا سوا. على الشيعة أن يكونوا مواطنين في دولهم. فكرة أن يكون هناك دور شيعي أكبر من دور البلد هذه لم تعد. هناك عشر سنوات، الأخيرة، لظروف جيوسياسية، لظروف الصراع في المنطقة إضطر حزب الله إلى أن يخرج من البلد. وحزب الله في نظامه الداخلي التأسيسي لا يتدخل في شؤون أي دولة أخرى، لأنهم استفادوا من تجارب الجبهات العربية والحركات اليسارية وخصوصاً المقاومة حين تتدخل في شؤون دولة تُضرب، مثلما صار مع فتح والجبهة الشعبية لتحرير فلسطين. أخذوا (مؤسسو حزب الله) قراراً داخلياً بأن لا يتدخلوا في شأن أي بلد آخر. حزب الله خصوصاً، بغض النظر عن حلفاء إيران في المنطقة، لكن في السنوات العشر الأخيرة، بعد الأزمة السورية، حزب الله خرج. هذا الموضوع حكى عنه السيد حسن، أسبابه، ظروفه، معه حق ما معو حق، هذا الأمر صار، لا يمكننا العودة إلى وقته قبل عشر سنين. لكن الآن، آن الأوان الآن، لحزب الله، أحكي كلاماً هنا في أن بي أن، أن يعود إلى لبنان. ليس بحاجة قاسم سليمان لكل هذا الحجم. لكن حزب الله، وإيران لا أعرف، ربما يمكن تعويض، تعبئة، لأنني لاحظت حجم الاهتمام الإعلامي والثقافي والفكري لأن يمكن بدهم يعوضوا عدم القيام بعمل عسكري الآن كرد، ربما يهتمون بالجانب التعبوي. لذلك، واضح من إيران للعراق للمنطقة، وهذا انعكس سلباً علينا. فلنعترف أن هذه الحملة الإعلامية، بغض النظر عن دور الحاج قاسم سليماني بالنسبة إلى لبنان، دعم لبنان، دعم المقاومة، لكن فلنعمل نقد ذاتي كل شي بيزيد عن حدّو بينقص”.

بناءً على ما تقدّم، وعلى سيرة قاسم قصير، إن ما قاله ليس غريباً عليه، إضافة إلى كونه ليس جديداً. ولعلّه، إذا ما نظرنا إلى الأمر من جهات عدة واستراتيجيّة، نجده ضرورياً وينمّ عن مسؤوليّة تجاه البلد وتنوّعه وأزماته وحاجاته ومستقبله، وتجاه “انتمائه” العربي، وأساساً تجاه “الذات” التي يوجّه قاسم قصير إليها ومن داخلها نقداً.

وهنا، تبرز مشكلة مفادها أن ثمّة من لا يريد لهذه “الذات” أن تنتقد نفسها وأن تتحاور، وثمة من يريد خفض سقف الحريّات في “بيئة” تلك الذات، حتّى على شخص مثل قاسم قصير.

وهذا التوجّه يتقاطع مع محاولات القمع في البلد عموماً، حيث تضيق مساحة الاختلاف والحرية، ومع محاولات تطييف القمع وكنتنته عبر ترك كل مذهب “يطهر” نفسه لتخلو الساحة للطوائف وقواها وفي بلد مقطّع الأوصال بلا حوار و”نقد ذاتي” أكثر ما تحتاج إليه الطائفيّات السياسية المتعاقبة.

وهذا ما على حزب الله أن يعالجه. فالقمع والإساءة والاعتداء على أصحاب الرأي، والمواطنين عموماً، وإن بدا أنّه يشد العصب “البيئي” المذهبي إلا أنّه يضر بالمقاومة أولاً، وبممارسه ثانياً، وبالجنوب الذي لا يُختصر ولا يُختزل بجهة أو اثنتين أو أكثر، ولا يمكن تعليب تعدّده وتراثه التسامحي والحواري والإنساني والوطني، مثلما يضر بالبلد وديمقراطيّته وحريّته وهو بأمسّ الحاجة إلى التفكير والنقد والحوار، داخليّاً وخارجيّاً، للخروج من هذه الأزمة القاتلة التي أوصلته إليها المنظومة الحاكمة التي قمعت ولم تَسمع وصحّرت السياسة وسفّهتها وشفّهتها واشترت الذمم، فعادت، وجمهورها، لا ترى الأمور والأشخاص إلا من هذا المنظار الضيّق.

وهذا ما لا يمكن إلا مواجهته بالإصرار على الحق في الاختلاف وإبداء الرأي وممارسة النقد، سواء أكان ذاتياً أم آخريّاً. ومع هذا الإصرار إصرارٌ على الحوار ورفض تحريمه وتكفير الداعين إليه والاعتداء عليهم أو تناولهم بتلك الاتهامات البالية المستنسخة والمستخدمة كالسلاح المتفلّت الطائش الخطر على المواطنين والحياة.

أضف تعليق